فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {ما نراك إِلا بشرًا مثلنا} أي: إِنسانًا مثلنا، لا فضل لك علينا.
فأما الأراذل، فقال ابن عباس: هم السَّفَلة.
وقال ابن قتيبة: هم جمع {أرذل}، يقال: رجل رَذْل، وقد رَذُل رذالة ورُذُولة.
ومعنى الأراذل: الشرار.
قوله تعالى: {بادي الرأي} قرأ الأكثرون {بادِيَ} بغير همز.
وقرأ أبو عمرو بالهمز بعد الدال.
وكلهم همز {الرأي} غير أبي عمرو.
وللعلماء في معنى {بادي} إذا لم يُهمز ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: ما نرى أتباعك إِلا سفلتنا وأرذالنا في بادي الرأي لكل ناظر، يعنون أن ما وصفناهم به من النقص لا يخفى على أحد فيخالفنا، هذا مذهب مقاتل في آخرين.
والثاني: أن المعنى أن هؤلاء القوم اتَّبعوك في ظاهر ما يُرى منهم، وطويَّتُهم على خلافك.
والثالث: أن المعنى: اتبعوك في ظاهر رأيهم، ولم يتدبروا ما قلتَ، ولو رجعوا إِلى التفكر لم يتبعوك، ذكر هذين القولين الزجاج.
قال ابن الأنباري: وهذه الثلاثة الأقوال على قراءة من لم يهمز، لأنه مِن بدا، يبدو: إِذا ظهر.
فأما من همز {بادئ} فمعناه: ابتداء الرأي، أي: اتَّبعوك أول ما ابتدؤوا ينظرون، ولو فكروا لم يعدلوا عن موافقتنا في تكذيبك.
قوله تعالى: {وما نرى لكم علينا من فضل} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: من فضل في الخلق، قاله ابن عباس.
والثاني: في الملك والمال ونحو ذلك، قاله مقاتل.
والثالث: ما فُضِّلتم باتِّباعكم نوحًا، ومخالفتكم لنا بفضيلة نتبعكم طلبا لها، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: {بل نظنكم كاذبين} فيه قولان:
أحدهما: نتيقنكم، قاله الكلبي.
والثاني: نحسبكم، قاله مقاتل. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ}
ذكر سبحانه قصص الأنبياء عليهم السلام للنبي صلى الله عليه وسلم تنبيهًا له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله أمرهم.
{إِنَّي} أي فقال: إني؛ لأن في الإرسال معنى القول.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: {أَنِّي} بفتح الهمزة؛ أي أرسلناه بأني لكم نذير مبين.
ولم يقل {إنه} لأنه رجع من الغيبة إلى خطاب نوح لقومه؛ كما قال: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 7] ثم قال: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145].
قوله تعالى: {أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} أي اتركوا الأصنام فلا تعبدوها، وأطيعوا الله وحده.
ومن قرأ: {إنّي} بالكسر جعله معترضًا في الكلام، والمعنى أرسلناه بألا تعبدوا إلا الله.
{إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}.
{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا}
فيه أربع مسائل:
الأولى:
قوله تعالى: {فَقَالَ الملأ} قال أبو إسحق الزجاج: الملأ الرؤساء؛ أي هم مليئون بما يقولون.
وقد تقدّم هذا في البقرة وغيرها.
{مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا} أي آدميًّا.
{مِّثْلَنَا} نصب على الحال.
و: {مثلنا} مضاف إلى معرفة وهو نكرة يقدر فيه التنوين؛ كما قال الشاعر:
يا رُبَّ مِثْلِكِ في النِّساءِ غَرِيرَةٍ

الثانية:
قوله تعالى: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} أَرَاذل جمع أَرْذُل وأَرْذُل جمع رَذْل؛ مثل كَلْب وأكْلُب وأَكَالب.
وقيل: والأراذل جمع الأَرْذل، كأَسَاود جمع الأَسْوَد من الحيّات.
والرَّذْل النّذْل؛ أرادوا اتبعك أخِسّاؤنا وسَقَطُنا وسفلتنا.
قال الزجاج: نسبوهم إلى الحِياكة؛ ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة.
قال النحاس: الأراذل هم الفقراء، والذين لا حسب لهم، والخسيسو الصناعات.
وفي الحديث: «إنهم كانوا حاكَة وحَجَّامين».
وكان هذا جهلًا منهم؛ لأنهم عابوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بما لا عيب فيه؛ لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، إنما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات، وليس عليهم تغيير الصور والهيئات، وهم يرسَلون إلى الناس جميعًا، فإذا أسلم منهم الدنيء لم يلحقهم من ذلك نقصان؛ لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم.
قلت: الأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء؛ كما قال هِرَقْل لأبي سفيان: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم؛ فقال: هم أتباع الرسل.
قال علماؤنا: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها، والأَنَفة من الانقياد للغير؛ والفقير خلِيٌّ عن تلك الموانع، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد.
وهذا غالب أحوال أهل الدنيا.
الثالثة:
اختلف العلماء في تعيين السّفلة على أقوال؛ فذكر ابن المبارك عن سفيان أن السّفلة هم الذين يَتَقلَّسون، ويأتون أبواب القضاة والسلاطين يطلبون الشهادات.
وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السّفِلة الذين يأكلون الدنيا بدينهم؛ قيل له: فمن سفلة السّفلة؟ قال: الذي يُصلح دنيا غيره بفساد دينه.
وسئل علي رضي الله عنه عن السّفلة فقال: الذين إذا اجتمعوا غَلَبوا؛ وإذا تفرقوا لم يعرفوا.
وقيل لمالك بن أنس رضي الله عنه: مَن السّفلة؟ قال: الذي يسبّ الصحابة.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: الأرذلون الحاكَة والحجّامون.
يحيى بن أَكْثَم: الدّبّاغ والكنّاس إذا كان من غير العرب.
الرابعة:
إذا قالت المرأة لزوجها: يا سَفِلة، فقال: إن كنتُ منهم فأنتِ طالق؛ فحكى النقاش أن رجلًا جاء إلى التّرمذي فقال: إن امرأتي قالت لي يا سَفِلة، فقلت: إن كنتُ سَفِلة فأنت طالق؛ قال التّرمذيّ: ما صناعتك؟ قال: سماك؛ قال: سَفِلة واللَّهِ، سَفلة والله (سفلة).
قلت: وعلى ما ذكره ابن المبارك عن سفيان لا تطلق، وكذلك على قول مالك، وابن الأعرابي لا يلزمه شيء.
قوله تعالى: {بَادِيَ الرأي}.
أي ظاهر الرأي، وباطنهم على خلاف ذلك.
يقال: بدا يبدو إذا ظهر؛ كما قال:
فاليوم حين بَدَوْن للنُّظار

ويقال للبرّية بادية لظهورها.
وبدا لي أن أفعل كذا، أي ظهر لي رأي غير الأول.
وقال الأزهري: معناه فيما يبدو لنا من الرأي.
ويجوز أن يكون: {بَادِيَ الرَّأْيِ} من بدأ يبدأ وحذف الهمزة.
وحَقَّق أبو عمرو الهمزة فقرأ: {بَادِئ الرأي} أي أوّل الرأي؛ أي اتبعوك حين ابتدؤوا ينظرون، ولو أمعنوا النظر والفكر لم يتبعوك؛ ولا يختلف المعنى هاهنا بالهمز وتَرك الهمز.
وانتصب على حذف {في} كما قال عز وجل: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} أي في اتباعه؛ وهذا جحد منهم لنبوّته صلى الله عليه وسلم.
{بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} الخطاب لنوح ومن آمن معه. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه إني لكم نذير مبين} يعني أن نوحًا عليه السلام قال لقومه حين أرسله الله إليهم إني لكم أيها القوم نذير مبين يعني بين النذارة أخوف بالعقاب من خالفة أمر الله وعبد غيره؛ وهو قوله سبحانه وتعالى: {أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} يعني مؤلم موجع قال ابن عباس: بعث نوح بعد أربعين سنة ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة فكان عمره ألفًا وخمسين سنة.
وقال مقاتل: بعث وهو ابن مائة سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو يومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفًا وأربعمائة وخمسين سنة.
{فقال الملأ الذين كفروا من قومه} يعني الأشراف والرؤساء من قوم نوح: {ما نراك} يا نوح: {إلا بشرًا مثلنا} يعني آدميًا مثلنا لا فضل لك علينا لأن التفاوت الحاصل بني آحاد البشر يمتنع اشتهاره إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة على جميع العالم وإنما قالوا هذه المقالة وتمسكوا بهذه الشبهة جهلًا منهم لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدعوة إلى الله تعالى بإقامة الدليل والبرهان على ذلك ويظهر المعجزة الدالة على صدقه ولا يأتي ذلك إلا من آحاد البشر وهو من اختصه الله بكرامته وشرفه بنبوته وأرسله إلى عباده ثم قال سبحانه وتعالى إخبارًا عن قوم نوح: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} يعني سفلتنا والرذل الدون من كل شيء قيل هم الحاكة والأساكفة وأصحاب الصنائع الخسيسة وإنما قالاو ذلك جهلًا منهم أيضًا لأن الرفعة في الذين ومتابعة الرسول لا تكون بالشرف ولا بالمال والمناصب العالية بل للفقراء الخاملين وهم أتباع الرسل ولا يضرهم خسة صنائعهم إذا حسنت سيرتهم في الدين: {بادي الرأي} يعني أنهم اتبعوك في أول الرأي من غير تثبت وتفكر في أمرك، ولو تفكروا ما اتبعوك.
وقيل: معناه ظاهر الرأي، يعني أنهم اتبعوك من غير أن تفكروا باطنًا: {وما نرى لكم علينا من فضل} يعني بالمال والشرف والجاه وهذا القول أيضًا جهل منهم لأن الفضيلة المعتبرة عند الله بالإيمان والطاعة لا بالشرف والرياسة: {بل نظنكم كاذبين} قيل الخطاب لنوح ومن آمن معه من قومه وقيل هو لنوح وحده فعلى هذا يكون الخطاب بلفظ الجمع للواحد على سبيل التعظيم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}
هذه السورة في قصصها شبيهة بسورة الأعراف بدئ فيها بنوح، ثم بهود، ثم بصالح، ثم بلوط، مقدّمًا عليه ابراهيم بسبب قوم لوط، ثم بشعيب، ثم بموسى وهارون، صلى الله على نبينا وعليهم أجمعين.
وذكروا وجوه حكم وفوائد لتكرار هذه القصص في القرآن.
وقرأ النحويان وابن كثير: أني بفتح الهمزة أي: بأبي، وباقي السبعة بكسرها على إضمار القول.
وقال أبو علي في قراءة الفتح: خروج من الغيبة إلى المخاطبة، قال ابن عطية: وفي هذا نظر، وإنما هي حكاية مخاطبة لقومه وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة، ولو كان الكلام أنْ أنذرهم أو نحوه لصح ذلك انتهى.
وأنْ لا تعبدوا إلا الله ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان كما جاء مصرّحًا في غير هذه السورة، وأن بدل من أي لكم في قراءة من فتح، ويحتمل أن تكون أنْ المفسرة.
وأما في قراءة من كسر فيحتمل أن تكون المفسرة، والمراعى قبلها: إما أرسلنا وإما نذير مبين، ويحتمل أن تكون معمولة لأرسلنا أي: بأن لا تعبدوا إلا الله، وإسناد الألم إلى اليوم مجاز لوقوع الألم فينه لا به.
قال الزمخشري: (فإن قلت): فإذا وصف به العذاب؟ (قلت): مجازى مثله، لأن الأليم في الحقيقة هو المعذب، ونظيرهما قولك: نهاره صائم انتهى. وهذا على أن يكون أليم صفة مبالغة من آلم، وهو من كثر ألمه. فإنْ كان أليم بمعنى مؤلم، فنسبته لليوم مجاز، وللعذاب حقيقة.
لما أنذرهم من عذاب الله وأمرهم بإفراده بالعبادة، وأخبر أنه رسول من عند الله، ذكروا أنه مماثلهم في البشرية، واستبعدوا أن يبعث الله رسولًا من البشر، وكأنهم ذهبوا إلى مذهب البراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق، ثم عيروه بأنه لم يتبعه إلا الأراذل أي: فنحن لا نساويهم، ثم نفوا أن يكون له عليهم فضل.
أي: أنت مساوينا في البشرية ولا فضل لك علينا، فكيف امتزت بأنك رسول الله؟ وفي قوله: إلا الذين هم أراذلنا، مبالغة في الإخبار، وكأنه مؤذن بتأكيد حصر من اتبعه، وأنهم هم الأراذل لم يشركهم شريف في ذلك.
وفي الحديث: «إنهم كانوا حاكة وحجامين» وقال النحاس: هم الفقراء والذين لا حسب لهم، والخسيسو الصناعات.
وفي حديث هرقل: «أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال: هم أتباع الرسل قبل» وإنما كان كذلك لاستيلاء الرئاسة على الأشراف وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد لغيرهم، والفقير خلى عن تلك الموانع فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. ونراك يحتمل أن تكون بصرية، وأن تكون علمية. قالوا: وأراذل جمع الجمع، فقيل: جمع أرذل ككلب وأكلب وأكالب. وقيل: جمع أرذال، وقياسه أراذيل. والظاهر أنه جمع أرذل التي هي أفعل التفضيل وجاء جمعًا، كما جاء أكابر مجرميها وأحاسنكم أخلاقًا.
وقال الزمخشري: ما نراك إلا بشرًا مثلنا، تعريض بأنهم أحق منه بالنبوّة، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ وموازيهم في المنزلة، فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم: وما نرى لكم علينا من فضل، أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكًا لا بشرًا، ولا يظهر ما قاله الزمخشري من الآية.
وقرأ أبو عمرو، وعيسى الثقفي: بادئ الرأي من بدأ يبدأ ومعناه: أول الرأي.
وقرأ باقي السبعة: بادي بالياء من بدا يبدو، ومعناه ظاهر الرأي.
وقيل: بادي بالياء معناه بادئ بالهمز، فسهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسر ما قبلها.
وذكروا أنه منصوب على الظرف، والعامل فيه نراك أو اتبعك أو أراذلنا أي: وما نراك فيما يظهر لنا من الرأي، أو في أول رأينا، أو وما نراك اتبعك أول رأيهم، أو ظاهر رأيهم.
واحتمل هذا الوجه معنيين: أحدهما: أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم، وعسى أن تكون بواطنهم ليست معك.
والمعنى الثاني: أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادئ دون تعقب، ولو تثبتوا لم يتبعوك، وفي هذا الوجه ذم الرأي غير المروي.